الأربعاء، 2 يونيو 2021

مانيكان

كتب باء

بقلم: بثينة الناصري

أربعة أزواج من العيون الزجاجية، كانت تتابع حثيثا تحركات السيد فاضل البطيئة، وهو يقوم بروتينه اليومي، لإغلاق محل الملابس الذي يمتلكه على ناصية الشارع العمومي.

لم تكن أوضاع العيون، تسمح لها بحرية المتابعة، فقد كانت نظراتها مثبتة، بشكل أبدي، في اتجاهات مختلفة، لكنها كانت تهجس بطريقة ما، خطوات السيد فاضل، فما أن أتم حركته الأخيرة بإسدال الواجهة الحديدية للمحل التي حجبت فضول العالم الخارجي، حتى انطلقت أربع تنهيدات، في وقت واحد، أعقبتها فوضى وجلبة، في نافذة العرض.

"آه .. أستطيع أن أجلس الآن" قالت الأولى.

قالت الثانية "لقد تيبست رقبتي"

"آن لظهري أن يعتدل" قالت الثالثة.

أما الرابعة، فقد نهضت من جلستها الأزلية، وحركت قدميها "لو كان هذا المكان أوسع!"

قالت ذات الشعر الكستنائي القصير "آه .. ماكان أكثر المتفرجين اليوم! لقد حاصرني الجميع بنظراتهم"

كانت ترتدي فستاناً أخضر مفتوحاً من الجانبين، يزمّ وسطه حزام من الجلد الأبيض.

قالت الشقراء، وهي تحرك خصلات شعرها الطويل:

" لم تكن كل الأنظار عليك. هل تذكرين السيدة بصحبة الرجل البدين؟ لقد ظلت تتفرس في فستاني من كل الجوانب".

كانت ترتدي فستان سهرة أسود عاري الكتفين، ينزلق ملتصقا بجسدها حتى كاحليها.

"لا أدري لِمَ لابد أن يكون البنطلون والبلوزة من نصيبي دائما؟" اشتكت ذات الشعر الأسود المنسدل حتى كفتيها.

ردت ذات الشعر الأحمر "هل نسيت أني ارتديت البنطلون طوال الإسبوع الماضي؟ ماذا أقول عن نفسي إذن؟ بهذا الطقم الفاقع، الذي لم يلفت غير انتباه تلك الطفلة ذات الظفائر، التي ظلت واقفة تحدق بي مشدوهة؟"

قالت ذات الشعر الأسود مخاطبة الشقراء:

"مارأيك؟ هل نتبادل ملابسنا بعض الوقت؟"

ردت الشقراء بغنج، وهي تنظر مشفقة إلى البنطلون والبلوزة:

"لا أدري ، أعتقد أن تركيب هيكلي، لايناسب الدخول في بنطلون"

"ولكن هياكلنا واحدة"

"ثم أن لون شعري، لا يليق مع اللون البنفسجي!"

"ولكنا سنفعل ذلك فيما بيننا. لن يرانا أحد. تعرفين كم أشتهي أن أرتدي فستان سهرة. لم أدخل في واحد طوال وجودي هنا"

حركت الشقراء جدائلها بحيرة، وهي تنظر إلى الأخريات، مستنجدة، ثم هزت كتفيها يائسة، وشرعت تخلع رداءها. كانت الأخرى قد سبقتها، في التخلص من البنطلون والبلوزة، وتناولت الفستان بلهفة، وارتدته. سوّت فتحة الصدر، وضعت كفيها على خصرها، وهي تتمايل بجسدها يمينا ويسارا.

"كيف أبدو؟"

أطلقت ذات الشعر الكستنائي، صفيرا خافتا وقالت: "رائع إن شعرك الأسود، أكثر انسجاما مع سواد الفستان. يبدو كأنه صنع لك" ثم التفتت الى الشقراء، وقالت معتذرة: "لا أقصد الإساءة. ثم هل تصدقين؟ إنك أكثر إغراءً بالبنطلون!"

"هل ترين ذلك؟"

قالت ذات الشعر الأحمر "هذا صحيح. لا أدري لماذا يصرّ منسق العرض، أن ترتدي الشقراء منا فستان السهرة الأسود دائما"

"آه.. لو كان في الإمكان، أن نختار نحن ما نرتديه!"

أجابت إحداهن بحسرة: " ولكن هذا مستحيل!"

بعد فترة من الحركة المضطربة، داخل الحيز الضيق. أبعدت الشقراء، كرسيا كانت تجلس عليه، وارتمت على الأرض، وقد طوت ساقيها تحتها، وأشارت لصاحباتها أن يفعلن مثلها، ولكنها، رفعت إصبعا في وجه ذات الشعر الأسود "إحذري أن يتمزق القماش. إنه من الدانتيلا الغالية"

هزت الأخرى رأسها، وهي ترفع ذيل فستانها، ثم تجلس بتؤدة، وتسوّي أطرافه بأناملها.

واستغرقت الفتيات بأحاديث، مثل كل ليلة تقطعها ضحكات خافتة، حتى غلبهن النعاس، فنمن وهن يتساندن،على أكتاف بعضهن البعض.

كانت الشقراء أول من أستيقظت فزعة، على صوت الأقفال، وهي تُفتح. هبّت وكمن به مسّ، خلعت ملابسها، ورمتها تحت قدمي صاحبتها، وهي تحثها أن تخلع الفستان الأسود، فقامت هذه متعثرة، والنعاس يغشي عينيها، وخلعت الفستان، وناولته لزميلتها التي ارتدته بسرعة، تساعدها جارتها ذات الشعر الكستنائي، ولكن ذات الشعر الأسود، والتي لم تتمالك نفسها بعد، كانت بالكاد تضع ساقا واحدة في البنطلون، حين طوّح السيد فاضل إلى الأعلى، بالباب الحديدي المنسدل على نافذة العرض، فاخترق الزجاج، ضوء النهار الباهر، وكان على العارضات أن يجمدن، في أوضاعهن الأزلية.

ظن السيد فاضل، أول الأمر، أن الشمس أعشت نظره، ولكن حين قرب عينيه من زجاج العرض، أدرك أن مايراه ليس خيالا أو وهما. كانت إحدى العارضات، تقف عارية تماما.

"لصّ كان هنا؟!"

كان أول ماتبادر إلى ذهنه. ولكنه حين تفحص الأقفال مرة أخرى ، وتحسس الأبواب، بحثا عن شرخ أو كسر، شعر بالحيرة، وتردد في الدخول إلى المحل، لئلا يفاجأ بما لا يحب.

"إذا كان هناك لص، فلابد أنه يمتلك نسخة من المفاتيح. لا أثر للعنف هنا"

استجمع شجاعته، ودفع باب المحل، وأطل في الداخل. كان كل شيء كما تركه. مد يده الى زر النور وضغط عليه، فامتلأ  المحل ضياء.. أجال النظر فيما حوله. فتح الدواليب التي يحتفظ بها بالفساتين القيمة وعدّها. كان كل شيء تاما كما تركه بالأمس. تقدم نحو نافذة العرض من الداخل، وتفحص محتوياتها. وجد ملابس العارضة العارية مرمية تحت قدميها، بل أنه وجد إحدى قدميها داخل البنطلون. تنهد بارتياح قائلا لنفسه:

"ذلك المنسق الغبي! لابد أنه لم يحبك وضع الملابس على المانيكان، فانزلقت عنها."

ولما لم يجد تفسيرا أكثر إقناعا من هذا، ارتمى على كرسي، وطفق يفكر في المشكلة القائمة. لن يستطيع ترك العارضة عارية أو مكانها فارغا، ولكن لم يجرب مرة تلبيس عارضاته. كانت هذه مهمة منسق العرض الذي يأتي مرة كل إسبوع ليغير تنسيق النافذة، ولما كان قد جاء فعلاً منذ يومين ، فليس من المنتظر أن يجيء قبل بضعة أيام. استقر رأيه أخيرا أن يجرب إلباس المانيكان بنفسه، فهي على أية حال ليست بالمهمة المستحيلة.

أغلق الباب وأحكم إسدال الستائر.

+++

يدان ضخمتان أمسكتا في وقت واحد بركبتيّ ورقبتي، وحُمِلتُ خارج المكان، ثم مُدِّدتُ على أرض الصالة عارية الرأس، إذ سقط شعري الأسود اللامع أثناء نقلي، ومن وضعي اليائس، حيث لا أستطيع لنفسي نفعاً ولا ضراً، رأيت السيد فاضل يحوم حولي، يقبض في يد على شعري وفي اليد الأخرى على البنطلون والبلوزة. ثم وضع حمله على الكرسي، وأقعى على الأرض، ينظر إليّ مترددا. أخيرا رأيته يتناول البنطلون، ويحاول أن يدخل ساقي فيه. كانت يده فظة، وهي تضغط على فخذي دافع به داخل البنطلون، ولا أعلم هل كان بسبب تجمد هيكلي أو قلة خبرته، أنه ارتبك كثيرا في التعامل مع جسدي، وكنت أتعجل أن انتهي من هذه المحنة التي لم أمرّ بها من قبل مع المنسق الذي كان يتم عمله معنا في غمضة عين، بيدين مدربتين لا تكادا تستقران على الجسد.

أخيرا إنتهى السيد فاضل من دفع البنطلون إلى أعلى. قلبني على وجهي وتعثرت يده بين جسدي والقماش ثم سمعت ضحكة مكتومة وهو يربت عليّ. فجأة، توقفت يده، وأحسست بها تتسلل ناعمة تحت القماش، ثم شرعت تجس جغرافيتي صعودا وهبوطا ثم أدارني وأخذ يتفحصني. كانت عيناي ترمقان السقف، ولكني كنت أهجس نظراته تلسعني، وأنفاسه الثقيلة المتسارعة تلفح صدري، ووجهي، وهو يكاد يجثم عليّ محاولا أن يلبسني الشعر. إعتدل، وتخللت أصابعه خصلات شعري هبوطا إلى عنقي، ثم أطبق بكفيه الكبيرين على ثدييّ فترة خلتُها دهراً.. بعد ذلك رفعهما ومرر إصبعاً على بطني وسرّتي، نزولا حتى اصطدم بالحزام. كان نَفَسَه يتسارع مرتعشا.

++

لم يكن إلباسها البلوزة صعباً.. أقفل السيد فاضل الأزرار بأصابع ثابتة، وأنهضها من الأرض، وحدق في وجهها ملياً، ثم ابتسم إبتسامة متواطئة، قبل أن يحملها برفق إلى نافذة العرض.

ارتعشت رموشها إضطراباً، وهي تحس بعيون رفيقاتها الزجاجية تتحرك ببطء من اتجاهاتها المتنافرة لتستقرّ جامدة عليها.

**

 نشرت في مجموعة (لماذا لا نذهب الى  البحر كثيرا)- القاهرة -2008


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما